فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} شرط؛ وجوابه {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ}.
ومعنى {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} من بعد السرقة؛ فإن الله يتجاوز عنه.
والقطع لا يسقط بالتوبة.
وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق.
وقاله بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولًا.
وتعلقوا بقول الله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} وذلك استثناء من الوجوب، فوجب حمل جميع الحدود عليه.
وقال علماؤنا: هذا بعينه دليلنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حدّ المحارب قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} وعطف عليه حدّ السارق وقال فيه: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما.
قال ابن العربي: ويا معشر الشافعية سبحان الله! أين الدقائق الفقهية، والحكم الشرعية، التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟ا ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدي بسلاحه، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والرّكاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام؛ فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم؟ا أو كيف يجوز أن يقال: يقاس على المحارب وقد فرّقت بينهما الحكمة والحالة! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين.
وإذا ثبت أن الحدّ لا يسقط بالتوبة فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له.
{وَأَصْلَحَ} أي كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب.
وقيل: {وَأَصْلَحَ} أي ترك المعصية بالكلية، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهوّد بالتنصُّر فهذا ليس بتوبة، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة.
وقيل: أن تقبل منه التوبة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمَن تَابَ} من السرّاق إلى الله تعالى: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} الذي هو سرقته، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته {وَأَصْلَحَ} أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن.
أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله، وقيل: المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة، وأكد ذلك بقوله سبحانه: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهو في موضع التعليل لما قبله، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه} أي من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليْه، أي قبلت توبته.
وقد تقدّم معناه عند قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه} في سورة البقرة (37).
وليس في الآية ما يدلّ على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه، لأنّ ظاهر «تاب وتاب الله عليْه» أنّه فيما بين العبد وبين ربّه في جزاء الآخرة؛ فقوله: {فمن تاب من بعد ظلمه} ترغيب لهؤلاء العصاة في التّوبة وبشارة لهم.
ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض الأحوال كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء: توبة السارق لا تسقط القطع ولو جاء تائبًا قبل القدْرة عليه.
ويدلّ لصحّة قولهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية ولا شكّ أنّها تائبة.
قال ابن العربي: لأنّ المحارب مستبدّ بنفسه معتصم بقوّته لا يناله الإمام إلاّ بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتّوبة استنزالًا من تلك الحالة كما فُعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافًا على الإسلام.
وأمّا السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين، اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقال عطاء: إن جاء السارق تائبًا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع، ونقل هذا عن الشّافعي، وهو من حمل المطلق على المقيّد حملًا على حكم المحارب، وهذا يشبه أن يكون من متّحد السبب مختلف الحكم.
والتّحقيق أنّ آية الحرابة ليست من المقيّد بل هي حكم مستفاد استقلالًا وأنّ الحرابة والسرقة ليسا سببًا واحدًا فليست المسألة من متّحد السبب ولا من قبيل المطلق الّذي قابَله مقيّد. اهـ.

.قال الفخر:

دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة، والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان، لا بأداء الواجبات. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}.
من استوفى أحكام التوبة فتَدَاركَ ما ضَيَّعه، وندم على ما صنعه، وأصلح من أمره ما أفسده- أقبل الله عليه بفضله فَغَفَره، وعاد إليه باللطف فَجَبَرَهُ. اهـ.

.من فوائد الفخر الرازي:

إذا تاب قبل القطع تاب الله عليه، وهل يسقط عنه الحد؟ قال بعض العلماء التابعين: يسقط عنه الحد، لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه، والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد، فظاهر الآية يقتضي سقوطها.
وقال الجمهور: لا يسقط عنه هذا الحد، بل يقام عليه على سبيل الامتحان. اهـ.

.من فوائد ابن القيم:

واختلف في توبة السارق إذا قطعت يده هل من شرطها: ضمان العين المسروقة لربها؟
وأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: أداؤها إليه إذا كانت موجودة بعينها وإنما اختلفوا إذا كانت تالفة فقال الشافعي وأحمد من تمام توبته ضمانها لمالكها ويلزمه ذلك موسرا كان أو معسرا وقال أبو حنيفة إذا قطعت يده وقد استهلكت العين لم يلزمه ضمانها ولا تتوقف صحة توبته على الضمان لأن قطع اليد هو مجموع الجزاء والتضمين عقوبة زائدة عليه لا تشرع.
قال: وهذا بخلاف ما إذا كانت العين قائمة فإن صاحبها قد وجد عين ماله فلم يكن أخذها عقوبة ثانية بخلاف التضمين فإنه غرامة وقد قطع طرفه فلا نجمع عليه غرامة الطرف وغرامة المال.
قالوا: ولهذا لم يذكر الله في عقوبة السارق والمحارب غير إقامة الحد عليهما ولو كان الضمان لما أتلفوه واجبا لذكره مع الحد ولما جعل مجموع جزاء المحاربين ما ذكره من العقوبة بأداة «إنما» التي هي عندكم للحصر فقال: 5:33 {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} الآية ومدلول هذا الكلام عند من يجعل أداة «إنما» للحصر أنه لا جزاء لهم غير ذلك.
قالوا: وقد روى النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد: أنه لا غرم عليه».
قالوا: وهذا هو المستقر في فطر الناس وعليه عملهم: أنهم يقعطون السراق ولا يغرمونهم ما أتلفوه من أموال الناس وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن.
قالوا: ولأنها لو ثبتت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها إذ لا يجتمع لربها البدل والمبدل وثبوت بدلها في ذمته يستلزم تقدير ملكها وهو شبهة في إسقاط القطع.
وأصحاب القول الأول يقولون: هذه العين تعلق بها حقان حق لله وحق لمالكها وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر بل يستوفيان معا لأن القطع حق لله والضمان حق للمالك ولهذا لا يسقط القطع بإسقاطه بعد الرفع إلى الإمام ولو أسقط الضمان سقط.
وهذا كما إذا أكره أمة غيره على الزنا لزمه الحد لحق الله والمهر لحق السيد وكذلك إذا أكره الحرة على الزنا أيضا بل لو زنا بأمة ثم قتلها لزمه حد الزنا وقيمتها لمالكها وهو نظير ما إذا سرقها ثم قتلها قطعت يده لسرقتها وضمنها لمالكها.
قالوا: وكذلك إذا قتل في الإحرام صيدا مملوكا لمالكه فعليه الجزاء لحق الله وقيمة الصيد لمالكه وكذلك إذا غصب خمر ذمي وشربها لزمه الحد حقا لله ولزمه عندكم ضمانها للذمي ولم يلزمه ضمان عند الجمهور لأنها ليست بمال فلا تضمن بالإتلاف كالميتة.
قالوا: وأما قولكم: إن قطع اليد مجموع الجزاء إن أردتم: أنه مجموع العقوبة فصحيح فإنه لم يبق عليه عقوبة ثانية ولكن الضمان ليس بعقوبة للسرقة ولهذا يجب في حق غير الجاني كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراها أو في حال نومه أو أتلفه إتلافا مأذونا له فيه كالمضطر إلى أكله أو المضطر إلى إلقائه في البحر لإنجاء السفينة ونحو ذلك فليس الضمان من العقوبة في شيء.
وأما قولكم: «إن الله لم يذكر في القرآن تضمين السارق والمحارب» فهو لم ينفه أيضا وإنما سكت عنه فحكمه مأخوذ من قواعد الشرع ونصوصه كقوله 2:194 {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وهذا قد اعتدى بالإتلاف فيعتدى عليه بالتضمين ولهذا أوجبنا رد العين إذا كانت قائمة ولم يذكر في القرآن وليس هذا من باب الزيادة على النص بل من باب إعمال النصوص كلها لا يعطل بعضها ويعمل ببعضها وكذلك الجواب عن قوله تعالى في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي عقوبتهم.
قالوا: وأما حديث عبد الرحمن بن عوف: فمنقطع لا يثبت يرويه سعد بن إبراهيم عن منصور وقد طعن في الحديث ابن المنذر فقال: سعد بن إبراهيم مجهول وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي.
وأما استقرار ذلك في فطر الناس: فمن قال: إنه مستقر في فطرهم: أن الغني الواجد إذا سرق مال فقير محتاج أو يتيم وأتلفه وقطعت يده أنه لا يضمن مال هذا الفقير واليتيم مع تمكنه من الضمان وقدرته عليه وضرورة صاحبه وضعفه؟ وهل المستقر في فطر الناس إلا عكس هذا؟.
وأما قولكم: «لو ثبت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها» فضعيف جدا لأنها بالإتلاف قد استقرت في ذمته ولهذا له المطالبة ببذلها اتفاقا وهذا الإستقرار في ذمته لا يمنع القطع فإنه يقطع بعد إتلافها واستقرارها في ذمته فكيف يزيل القطع ما ثبت في ذمته ويكون مبرئا له منه؟.
وتوسط فقهاء المدينة مالك وغيره بين القولين فقالوا: إن كان له مال ضمنها بعد القطع وإن لم يكن له مال فلا ضمان عليه.
وهذا استحسان حسن جدا وما أقر به من محاسن الشرع وأولاه بالقبول والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}.
والسارق ظالم؛ لأنه أخذ حق غيره، فإن تاب أي ندم على الفعل وعزم على ألا يعود شريطة ألا تكون التوبة بالكلام فقط، بل يصلح ما أفسده، هنا تُقبَل التوبة. ولكن كيف يفعل ذلك؟